هكذا تحولت ألمانيا من ‬39 كياناً إلى دولة واحدة

الإهداءات
  • غزل من من قلب الغزل ..:
    ضياءٌ شعَّ من أرض المدينة و زُفَّت البشرى لرسول الله (ص) بولادة سبطه الأول الإمام المجتبى (ع).✨💚
  • غزل من قلب الغزل:
    "يارب دائمًا اعطنّي على قد نيتي وسخر لي الأشخاص اللي يشبهون قلبي🌿✨. .
  • غزل من قلب الغزل:
    مارس الرحمة قدر المُستطاع فكلما تلطفت مع خلق الله زاد الله لطفهُ حولك.💐
  • غزل من قلب الغزل:
    اللهم إنك عفوٌ كريمٌ تحب العفو فاعفو عنا ♥️😌
دراسة تحليلية مسهبة التفاصيل كتبها مؤرخ أكاديمي عن الزعيم والسياسي الألماني الشهير «أوتوفون بسمارك» الذي دخل تاريخ بلاده والعالم أيضا بوصفه البطل المؤسس للإنجاز الوحدوي الذي تحولت به ألمانيا من ‬39 كيانا مستقلا ذا سيادة حيث أصبحت دولة فيدرالية مرهوبة الجانب وقادرة منذ توحدها في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر، على أن تدخل عالم القرن العشرين بوصفها كيانا متطورا في مجالات الصناعة ومضمار التحديث ودنيا الإبداع الفني والبناء الثقافي.


ورغم ما خاضته ألمانيا في القرن الماضي من حروب ضروس وما أصاب مرافقها وحواضرها من دمار على يد جيوش الحلفاء خلال أتون الحرب العالمية الثانية، إلا أن ألمانيا الموحدة استطاعت أن تضمد الجراح وأن تحقق ما وصفه المراقبون موضوعيا بأنه «معجزة» البناء الاقتصادي إلى أن دخلت مع سنوات القرن الواحد والعشرين بوصفها أقوى كيان اقتصادي على مستوى جميع الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي.


من هنا فقد جاءت المتابعة التحليلية والتفصيلية في هذا الكتاب لسيرة بسمارك وإنجازه الوحدوي درسا مستفادا لكل القوى المتطلعة إلى بناء وحدتها القومية في طول العالم وعرضه، فضلا عن تركيز الكتاب على حقيقة أن بسمارك أتمّ هذا الإنجاز بأسلوب يتسم بالتوازن الأقرب إلى معادلات الفيزياء، فيما يتميز بالدهاء السياسي بحيث أنجزت ألمانيا وحدة أراضيها دون أن تصاب بآفة الصرعات الداخلية أو تتكبد خسائر في الأرواح أو دمارا في المرافق أو الثروة المادية، هذا بالإضافة إلى حرص الكتاب على استكمال الأبعاد الكاملة لصورة بسمارك الشخصية سياسياً ومستشاراً وزعيماً ومثقفاً وإنساناً.


في أدبيات الفكر الوحدوي العربي، كثيرا ما يحيل المفكرون والمنظّرون إلى اثنتين من التجارب الوحدوية، الناجحة بطبيعة الحال، وقد شهدتها مرحلة العصر الحديث، وخاصة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. نتحدث عن تجربة الوحدة الإيطالية وتجربة الوحدة الألمانية.
 
  • بادئ الموضوع
  • #2
؟ التجربة الأولى ارتبطت باسم الكونت كامييو بنسو كافور (‬1810،‬1861) إلى جانب اسم غوسبي غاريبالدي (‬1807،‬1882): الأول كان سياسيا بارعا ووزيرا مقتدرا، وقد بسط رعايته وأبدى تعاونه الوثيق مع الثاني الذي كان عسكريا قاد جحافل المتطوعين إلى أن حقق الاثنان توحيد إيطاليا.


؟ التجربة الثانية استهدفت بدورها التحول بألمانيا من وضع الدوقيات والولايات الصغيرة المتناثرة إلى حيث تحقيق الحلم الذي طالما راود أجيالا من المفكرين والفلاسفة والمبدعين وسائر أفراد الشعب الذي ولدت أجياله على الأرض الألمانية ، وهذا الحلم كان يجسده الشعار الأثير وهو: ألمانيا الموحدة أو الوحدة الألمانية.


في هذا الإطار تسجل حوليات التاريخ الألماني أهمية عنصر اللغة التي رآها مفكرو الألمان ومنهم مثلا هيردر (‬1744،‬1803) ومن بعده فختة (‬1762،‬1814) أكبر وشيجة تربط بين أبناء الأمة التي تتكلم هذه اللغة الواحدة، وباعتبار اللغة، كما أكد كل فيلسوف منهما هي الأداة التاريخية التي تحقق أو تجسد ما ذهب إليه كل من الرجلين في تعريف الأمة على النحو التالي: الأمة هي جماعة من الناس تتكلم لغة واحدة ومن ثم تربطها وشيجة الثقافة الموحدة في إطار من الاستمرار.


لا عجب إذن أن يتوقف الفكر القومي العروبي في العصر الحديث عند تأكيد المدرسة الألمانية على عنصر اللغة الواحدة ومن ثم التراث الثقافي الواحد، وهذا بالضبط ما ذهب إليه مفكر القومية العربية الراحل ساطع الحصري حين اعتمد نظرية المدرسة الألمانية بعيدا عما قالت ذهبت إليه مثلا المدرسة الفرنسية التي قالت بالرابطة العنصرية أو رابطة المشيئة في تشكيل الكيان القومي.


لكن مع كامل الاحترام لما يقول به أهل الفلسفة أو أصحاب النظريات فما كان لأي عمل وحدوي أن ينجح في القرن التاسع عشر إلا بعد أن يتوافر له، إلى جانب رجل الفكر، عنصر آخر يتمثل في رجل السياسة ورجل الحزم العسكري.


كان هذا ما تحتاجه «الحالة الألمانية» على وجه الخصوص، فعند منتصف القرن الـــ ‬19 كانت ألمانيا عبارة عن كيانات صغيرة متعددة ومتناثرة بل ومتنافسة في بعض الأحيان. وبلغ عدد هذه الكيانات المستقلة ذاتيا ‬39 من الدول، بالأدق الدويلات ذات السيادة. ولأن الوحدة هي المعادل الموضوعي للقوة، وخاصة على مستوى الشعب الألماني الذي كان يتطلع وقتها إلى أن يشغل مكانا ومكانة، جنبا إلى جنب مع المنافس الإنجليزي أو الغريم الفرنسي أو الأنداد والنظراء في امبراطورية آل هابسبورغ حكام النمسا والمجر أو امبراطورية آل رومانوف حكام روسيا دعك عن امبراطورية مسلمة كانت قد ملأت الدنيا وشغلت الزمان على مدار قرون سبقت ذلك الزمان، وهي امبراطورية بني عثمان الأتراك وعاصمتها العتيدة اسطنبول على ضفاف البوسفور.
 
  • بادئ الموضوع
  • #3
رجل الأقدار


هنالك كانت ألمانيا بانتظار ما اصطلح المؤرخون على أن يخلعوا عليه الوصف التالي: رجل الأقدار


والحاصل أن رجل الأقدار كان لا بد وأن يأتي في لحظة مناسبة بالغة الأهمية من حيث نضج الظروف ودقة التوقيت.


فأما اللحظة المرتقبة فقد حانت في صيف عام ‬1862. هي اللحظة التي شهدت تعيين مستشار جديد (يسمونه وزيراً رئاسياً) في برلين عاصمة بروسيا الامبراطورية، كما كانت تعرف في ذلك الزمان. وهي أيضا لحظة تعيين رجل الأقدار ، وكان اسمه أوتو فون بسمارك. وقد دخل التاريخ تحت لقب اصطلحت عليه جمهرة المؤرخين وهو: المستشار الحديدي


وبمعنى أن الرجل طرح شعاراً يؤكد على أهمية تحقيق آمال الشعب الألماني في توحيد تلك الكيانات السياسية، التسعة والثلاثين، على نحو ما أسلفنا، في دولة امبراطورية واحدة هي دولة الشعب الألماني الموحدة حتى ولو اقتضى الأمر تفعيل الشعار العتيد وهو «الحديد ، والنار»


ولأن توحيد ألمانيا كان قصة ملحمية من النجاح فقد أصبحنا نطالع لقبا آخر أطلقوه مؤخراً على بسمارك وهو: السياسي المقتدر أو حرفياً: السياسي المعلّم أو السياسي الأستاذ.


أفكار من كيسنجر


هذا هو اللقب الذي اختاره لوصف بسمارك ، سياسي بارز من زماننا اسمه: هنري كيسنجر.


لقد نشر كيسنجر أخيرا عرضا تحليليا لأحدث كتاب صدر عن بسمارك وتجربته، سواء بوصفه وزيرا رئاسيا لألمانيا منذ تعيينه في ستينات القرن ‬19، أو بوصفه المهندس الأول لتجربة الوحدة الألمانية التي خاضت غمار الأحداث التاريخية عبر سنوات خلت من القرنين التاسع عشر والقرن العشرين: ما بين نجاح التجربة الوحدوية إلى تحمّل ويلات حربين عالميتين (‬1914 و‬1939) إلى تقسيم ألمانيا الموحدة سابقا في دولتين إلى الشرق والغرب ثم إلى لحظة باهرة أخرى شهدها بالذات عام ‬1989 ــــ حيث سقط الجدار الفاصل بين شطري برلين العاصمة ومن ثم عادت ألمانيا الموحدة إلى خارطة أوروبا لتستعيد مكانتها ودورها ولتصبح موضوعيا أقوى كيان اقتصادي في وسط القارة الأوروبية وفي غربها على السواء.



المقال الذي كتبه كيسنجر في تحليل كتابنا وجد طريقا إلى النشر في ملحق الكتب، عدد الأحد الأسبوعي من «نيويورك تايمز» وأيضا في جريدة هيرالد تربيون وتحت عنوان مغاير هو: عملاق بناء الأمة الألمانية.


والحق أن قراءة مثل هذا الكتاب الضخم عبر صفحاته التي قاربت ‬600 صفحة كفيلة بأن تضع القارئ في صورة مكتملة الوضوح ومتعددة الأبعاد لسياسة التوازن الدولي التي سادت مجتمع الغرب مع الثلث الأخير من القرن ‬19 ، وهي المرحلة التي حرص مؤلف كتابنا، البروفيسور «جوناثان شتاينبرغ» على تأكيد أنها كانت المقدمة التي تشكلت على أساسها أوضاع عالمنا في القرن العشرين.


من هنا تأتي أهمية «الحكاية البسماركية» كما قد نسميها، خاصة وأن بطلها «أوتو بسمارك» لم يكن قد سبق وأن أحرز قبل تعيينه في منصب الوزير الأول أي إنجازات عامة يعتد بها في بروسيا اللهم إلا توليه مناصب دبلوماسية كان آخرها منصب السفير في موسكو.
 
  • بادئ الموضوع
  • #4
رغم العنوان المتواضع


ورغم أن المؤلف اختار عنوانا بالغ التواضع لكتابه الحافل هو: «بسمارك: قصة حياة» إلا أن سطور الفصول التي يتألف منها المتن الغزير بالمعلومات والمزود بصور تاريخية عديدة إنما تكشف عن أعجاب البروفيسور شتاينبرغ إزاء بطله بسمارك الذي يصفه قائلا: إنه كان يتمتع بعبقرية سياسية من نوع فريد للغاية. ثم يحاول المؤلف أن يبرر هذا الإعجاب البالغ ببطل الكتاب حين يصف إنجاز الوحدة الألمانية التي حققها بسمارك قائلا. إنه أعظم إنجاز دبلوماسي وسياسي أمكن تحقيقه من جانب أي زعيم على مدار القرنين الآخرين.


في السياق نفسه فنحن نتفق تماما مع المؤلف حين يتبع المنطق ذاته فيوضح كيف زاد هذا الإنجاز عمقا وتألقا حين يضيف قائلا: إن أوتوبسمارك حقق هذا كله بغير تجنيد فرد عسكري واحد. وبغير السيطرة على أغلبية واسعة في البرلمان. وبغير مؤازرة من جانب حركة جماهيرية ، بل حققه بغير سابق تجربة أو خبرة لبسمارك نفسه في دولاب الحكم ، فما بالنا وقد أنجز هذا كله فيما كان يواجه شعورا بعدم الارتياح القومي إزاء اسمه وسمعته!


على أن شخصية بسمارك، على نحو ما يصورها الكتاب الذي بين أيدينا، ليست بالشخصية المبسطة أو المباشرة، إنها أقرب إلى صفة التعقيد أو حتى الازدواجية ، فلم يكن أحد في ذلك العصر يلمح الرجل إلا وقد ارتدى البزة الرسمية العسكرية ، ومع ذلك فلم يكد أحد يسجل أن بسمارك قد خدم في السلك العسكري في مرحلة من مراحل حياته.


من ناحية أخرى كان بسمارك يسجل أفكاره في أسلوب يجمع بين السلاسة والجمال في اللغة الألمانية ، يقارنه المؤلف بأسلوب الزعيم البريطاني تشرشل في اللغة الإنجليزية. لكن أسلوب بسمارك في التعامل مع القضايا والمشكلات العامة كان أقرب إلى الواقعية السياسية وكأن مؤلف كتابنا يحاول أن يقول: كان بسمارك الكاتب يتبع أسلوباً أقرب إلى التحليق في فضاءات الفكر وأجواز اللغة، فيما كان بسمارك السياسي يتبع أسلوبا يعمد إلى ملامسة الحقائق على أرض الواقع. وهو ما يجسد المفارقة بين رجل الكتابة البالغة السلاسة ورجل «الحديد والنار»


ما بعد حقبة نابليون


والحاصل أن بسمارك دخل معمعة السياسة وبدأ التعاطي مع قضايا زمانه في عالم كان وقتها لا يزال مشبعا بالتبعات والذكريات التي نجمت عن حقبة نابليون وما أسفرت عنه من تغيرات في الواقع الأوروبي. وكان الدرس البليغ المستفاد هو أن الغازي الفرنسي بونابرت نجح في حروبه، طبعا قبل هزيمته النهائية في ووترلو عام ‬1815، عندما استغل أوضاع التجزئة التي كانت تعاني منها الأقطار المجاورة لفرنسا وفي مقدمتها طبعا إيطاليا وألمانيا ، ومن ثم فالدرس المؤلم المذكور كان معناه ببساطة ما يلي: في التجزئة يكون الاستضعاف ومن ثم الهزائم ، وفي الوحدة يكون استجماع أسباب القوة ومن ثم الفوز ومواصلة الخطى على الطريق.


لهذا نلاحظ مع سطور الكتاب أن ميزة بسمارك سياسيا كان أو زعيما يمكن أن يلخصها معنى وحيد هو: التوازن.فلم يكن الرجل يصدر عن إحساس بعنجهية القوة ولدرجة الغرور الذي سبق وأوْدى بالكثير من السياسيين وقادة الدول، ولا كان يصدر عن تبني نظرة أيديولوجية جامدة يتعصب لها ولا يفتأ يدافع عنها ، وبشكل قد تصرفه هذه العقيدة عن رؤية الواقع بكل زخمه وعلى اختلاف أبعاده وإيقاع تغيراته.


كان بسمارك، كما يوضح الدكتور كيسنجر، في تحليله لهذا الكتاب أقرب إلى عالم الفيزياء، بمعنى ان كان يتناول المشكلة السياسية ، ويخضعها إلى مقاييس الدرس والاختبار والتحليل الموضوعي ثم يخرج منها بعدد من الخيارات المطروحة بشكل متوازن يستعرضه على البارد كما يقولون.


من هذه المنطلقات كان الرجل يتكلم لغة عصره، ستينات إلى ثمانينات القرن الـــ ‬19، وبينما كان خصومه ومنافسوه لا يزالون متمسكين بأذيال ومواريث عصور سبقت. من هنا جاء فهم بسمارك ــــ على نحو ما يوضح المؤلف ــــ لمرحلة ما بعد نظرية التطور التي سبق وأعلنها بارون في عام ‬1858 وبمعنى أن العالم أصبح أكثر تعقيدا وأشد تداخلا، وبمعنى أن ثمة قوى جديدة شقت طريقها على مسرح السياسة والأحداث بعد الثورة الصناعية وظهور طبقة عمالية كان طبيعيا أن تستجيب إلى «البيان الشيوعي» أو المانيفستو الذي أعلنه كذلك كارل ماركس في عام ‬1848.


هؤلاء الخصوم المعاصرون ظلوا يحيلون إلى زمن القرن الثامن عشر بوصفه إطارهم المرجعي ومن ثم بقيت تصوراتهم على حالها بأن العالم يمشي على نحو ما يتحرك بندول الساعة وعلى أساس إيقاع تراتبي وئيد ورتيب على نحو ما سبق إلى وصفه إسحق نيوتن منذ أواخر القرن السابع عشر للميلاد.
 

أقسام الرافدين

عودة
أعلى أسفل