- بينما كانت الدولة العثمانية منشغلةً بإصلاحاتها الداخليَّة والخارجيَّة، وبينما كانت تحاول أن تجد طريقةً لإحكام قبضتها على
- ولاياتها المتناثرة بلا رابطٍ هنا وهناك، فوجئت الدولة، وفُجِعَت في الحقيقة، باحتلالٍ غير متوقَّعٍ لجزءٍ مهمٍّ من أراضيها!
- إنه الاحتلال الفرنسي لمصر وفلسطين، وهو احتلالٌ من دولةٍ كانت تدَّعي الصداقة للعثمانيين عدَّة قرون،
- كما أن هذا الاحتلال حدث بلا توتُّراتٍ سابقةٍ بين الدولتين، بل العكس جاء بعد ثلاث سنواتٍ فقط من تجديد الدولة العثمانية
- لامتيازات الفرنسيين التجاريَّة في الدولة، ممَّا جعل المفاجأة ثقيلة!
تبقى دوافع الحملة الفرنسية على مصر وفلسطين مثار جدلٍ كبيرٍ بين المؤرِّخين، - وليس هناك إعلانٌ فرنسيٌّ صريحٌ يُفسِّر هذه الحملة، وإن كان السبب الأكبر في الأغلب هو قطع طريق التجارة الإنجليزيَّة،
- التي كانت تتَّخذ من مصر نقطةً وسيطةً بينها وبين الهند[1][2]. كانت هذه التجارة شريان حياةٍ اقتصاديٍّ بالنسبة إلى الإنجليز،
- ومصدرًا مهمًّا للموادِّ الخامِّ التي زادت قيمتها بعد الثورة الصناعيَّة الكبرى التي قامت في بريطانيا في هذه الفترة،
- ولما كانت بريطانيا هي الدولة التي تتزعَّم قتال فرنسا في أوروبا، فإن حربها في النقاط الحيويَّة لها في العالم -ومنها مصر-
- كان هدفًا فرنسيًّا مهمًّا. لذلك لم يكن عداء الدولة العثمانية مقصودًا في هذه الحملة؛ إنما جاء كأضرارٍ جانبيَّةٍ لحربٍ فرنسيَّةٍ إنجليزيَّة،
- وهذا يحدث بشكلٍ متكرِّرٍ مع الشعوب الضعيفة... فالآن يُعاني الشعب المصري من جرَّاء حرب الإنجليز والفرنسيين على أرضه! والتاريخ يُكرِّر نفسه!
قاد الحملة الفرنسية ألمع القادة الأوروبيين في العصر الحديث، وهو نابليون بونابرت، - وقد جاء مسبوقًا بأخبار انتصاراته الساحقة التي حقَّقها على النمساويين والإيطاليين في عامي 1796 و1797م
- قبيل الحملة على مصر بقليل، وقد استطاع في هذه الحروب الأوروبية أن يحتلَّ شمال إيطاليا، وأن يُحقِّق طموحاتٍ
- فرنسيَّةً لم تتحقَّق على مدار قرون، بل تمكَّن في عام 1797م -قبل عامٍ واحدٍ من غزو مصر- من ضمِّ جمهورية البندقية العتيدة
- إلى فرنسا منهيًا وجودها بالكلِّيَّة[3]! كان نابليون في هذا الوقت أحد قادة الجيش الفرنسي الجمهوري المنقلب على الملكيَّة،
- وهذا أعطاه مكانةً كبيرةً في الجيش؛ خاصَّةً في ظلِّ إقصاء عددٍ كبيرٍ من كبار قيادات الجيش الملكي القديم،
- ثم جاءت انتصاراته لتجعله بطلًا قوميًّا فرنسيًّا، وقد أضاف إلى شهرته إنشاؤه لجريدتين عسكريَّتين تنشران أخبار المعارك،
- كان لهما الأثر الكبير في تسويق اسمه في فرنسا وأوروبا[4]. كان نابليون عبقريًّا، وله عقلٌ في غاية الفطنة، وكان محبًّا للعلوم،
- وتمتَّع إلى جوار ذلك بمَلَكَاتٍ إداريَّةٍ فائقة، وبثقافةٍ واسعة، وبكاريزما قياديَّة لافتة، وبهمَّةٍ عالية[5]،
- لكنه كان -فيما أرى- بلا قلب، وحشيًّا تمامًا في معاركه، مغرورًا متكبِّرًا، كما أنه كان في سبيل مصلحته
- يطأ كلَّ خُلُقٍ نبيل! ينبغي لفت النظر إلى أن نابليون وقت حملته على مصر والشام كان في التاسعة والعشرين
- فقط من العمر، حيث إنه من مواليد 15 أغسطس 1769م[6]!