الحملة الفرنسية على مصر وفلسطين

الإهداءات
  • غزل من من قلب الغزل ..:
    ضياءٌ شعَّ من أرض المدينة و زُفَّت البشرى لرسول الله (ص) بولادة سبطه الأول الإمام المجتبى (ع).✨💚
  • غزل من قلب الغزل:
    "يارب دائمًا اعطنّي على قد نيتي وسخر لي الأشخاص اللي يشبهون قلبي🌿✨. .
  • غزل من قلب الغزل:
    مارس الرحمة قدر المُستطاع فكلما تلطفت مع خلق الله زاد الله لطفهُ حولك.💐
  • غزل من قلب الغزل:
    اللهم إنك عفوٌ كريمٌ تحب العفو فاعفو عنا ♥️😌
  1. بينما كانت الدولة العثمانية منشغلةً بإصلاحاتها الداخليَّة والخارجيَّة، وبينما كانت تحاول أن تجد طريقةً لإحكام قبضتها على
  2. ولاياتها المتناثرة بلا رابطٍ هنا وهناك، فوجئت الدولة، وفُجِعَت في الحقيقة، باحتلالٍ غير متوقَّعٍ لجزءٍ مهمٍّ من أراضيها!
  3. إنه الاحتلال الفرنسي لمصر وفلسطين، وهو احتلالٌ من دولةٍ كانت تدَّعي الصداقة للعثمانيين عدَّة قرون،
  4. كما أن هذا الاحتلال حدث بلا توتُّراتٍ سابقةٍ بين الدولتين، بل العكس جاء بعد ثلاث سنواتٍ فقط من تجديد الدولة العثمانية
  5. لامتيازات الفرنسيين التجاريَّة في الدولة، ممَّا جعل المفاجأة ثقيلة!
    تبقى دوافع الحملة الفرنسية على مصر وفلسطين مثار جدلٍ كبيرٍ بين المؤرِّخين،
  6. وليس هناك إعلانٌ فرنسيٌّ صريحٌ يُفسِّر هذه الحملة، وإن كان السبب الأكبر في الأغلب هو قطع طريق التجارة الإنجليزيَّة،
  7. التي كانت تتَّخذ من مصر نقطةً وسيطةً بينها وبين الهند[1][2]. كانت هذه التجارة شريان حياةٍ اقتصاديٍّ بالنسبة إلى الإنجليز،
  8. ومصدرًا مهمًّا للموادِّ الخامِّ التي زادت قيمتها بعد الثورة الصناعيَّة الكبرى التي قامت في بريطانيا في هذه الفترة،
  9. ولما كانت بريطانيا هي الدولة التي تتزعَّم قتال فرنسا في أوروبا، فإن حربها في النقاط الحيويَّة لها في العالم -ومنها مصر-
  10. كان هدفًا فرنسيًّا مهمًّا. لذلك لم يكن عداء الدولة العثمانية مقصودًا في هذه الحملة؛ إنما جاء كأضرارٍ جانبيَّةٍ لحربٍ فرنسيَّةٍ إنجليزيَّة،
  11. وهذا يحدث بشكلٍ متكرِّرٍ مع الشعوب الضعيفة... فالآن يُعاني الشعب المصري من جرَّاء حرب الإنجليز والفرنسيين على أرضه! والتاريخ يُكرِّر نفسه!
    قاد الحملة الفرنسية ألمع القادة الأوروبيين في العصر الحديث، وهو نابليون بونابرت،
  12. وقد جاء مسبوقًا بأخبار انتصاراته الساحقة التي حقَّقها على النمساويين والإيطاليين في عامي 1796 و1797م
  13. قبيل الحملة على مصر بقليل، وقد استطاع في هذه الحروب الأوروبية أن يحتلَّ شمال إيطاليا، وأن يُحقِّق طموحاتٍ
  14. فرنسيَّةً لم تتحقَّق على مدار قرون، بل تمكَّن في عام 1797م -قبل عامٍ واحدٍ من غزو مصر- من ضمِّ جمهورية البندقية العتيدة
  15. إلى فرنسا منهيًا وجودها بالكلِّيَّة[3]! كان نابليون في هذا الوقت أحد قادة الجيش الفرنسي الجمهوري المنقلب على الملكيَّة،
  16. وهذا أعطاه مكانةً كبيرةً في الجيش؛ خاصَّةً في ظلِّ إقصاء عددٍ كبيرٍ من كبار قيادات الجيش الملكي القديم،
  17. ثم جاءت انتصاراته لتجعله بطلًا قوميًّا فرنسيًّا، وقد أضاف إلى شهرته إنشاؤه لجريدتين عسكريَّتين تنشران أخبار المعارك،
  18. كان لهما الأثر الكبير في تسويق اسمه في فرنسا وأوروبا[4]. كان نابليون عبقريًّا، وله عقلٌ في غاية الفطنة، وكان محبًّا للعلوم،
  19. وتمتَّع إلى جوار ذلك بمَلَكَاتٍ إداريَّةٍ فائقة، وبثقافةٍ واسعة، وبكاريزما قياديَّة لافتة، وبهمَّةٍ عالية[5]،
  20. لكنه كان -فيما أرى- بلا قلب، وحشيًّا تمامًا في معاركه، مغرورًا متكبِّرًا، كما أنه كان في سبيل مصلحته
  21. يطأ كلَّ خُلُقٍ نبيل! ينبغي لفت النظر إلى أن نابليون وقت حملته على مصر والشام كان في التاسعة والعشرين
  22. فقط من العمر، حيث إنه من مواليد 15 أغسطس 1769م[6]!
 
  • بادئ الموضوع
  • #2
تُعتبر الحملة الفرنسية على مصر من الحملات الحربيَّة النادرة في التاريخ التي تحمل أهدافًا علميَّةً حقيقيَّة، إلى جوار أهدافها السياسيَّة والعسكريَّة، وفي الجملة كانت البعثة العلميَّة شديدة التميُّز، وإليها يرجع الفضل في اكتشاف حجر رشيد Rosetta Stone الذي فتح الباب على مصراعيه لمعرفة التاريخ المصري القديم، ولفهم اللغة الهيروغليفيَّة للمرَّة الأولى في التاريخ، ولتأسيس علم المصريَّات Egyptology، وإليهم يرجع الفضل كذلك في تأليف الكتاب القيِّم «وصف مصر» في أربعةٍ وعشرين مجلَّدًا[9]، وهو من أروع ما كُتِب في وصف مصر في هذه الفترة التاريخيَّة. غنيٌّ عن البيان أن هذه الأهداف العلميَّة لم تكن ترمي إلى نفع البلاد المحتلَّة، ولكن كان نابليون يؤمن أن تأسيس إمبراطوريَّةٍ قويَّةٍ لا يكون إلا بالعلم الراسخ في كلِّ المجالات، ولذلك اصطحب معه هذا الفريق العلمي ليتمكَّن من ترسيخ أقدامه في الشرق بشكلٍ سليم، وهذه في الواقع صفاتٌ عبقريَّةٌ لا بُدَّ من الإشارة إليها.
 
  • بادئ الموضوع
  • #3
  1. أبحر نابليون من ميناء تولون Toulon الفرنسي في 19 مايو 1798م، وكان أسطوله يضمُّ حوالي خمسٍ وخمسين سفينةً حربيَّةً حديثة، بالإضافة إلى مائةٍ وثلاثين سفينة نقل، وكان معه ثمانيةٌ وثلاثون ألف مقاتلٍ غير البحَّارة والعمَّال[10]. كانت وجهة الحملة غير معروفةٍ إلا لنابليون، وذلك إمعانًا في تضليل الأسطول الإنجليزي القوي الذي خرج مسرعًا ليُحاول اكتشاف الهدف الذي يتحرك له الأسطول الفرنسي الكبير[11]. أراد نابليون أن يجعل له قاعدةً صلبةً في البحر المتوسط فَدَاهَمَ مالطة، واستطاع احتلالها يوم 9 يونيو بعد يومٍ واحدٍ من الحصار[12]!
    كانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم المملوكين مراد بك، وإبراهيم بك، وهما منشقَّان عن الدولة العثمانية، وكان نابليون يُدرك ذلك، ويعلم أن الجيش العثماني غير موجودٍ بمصر. ظهر الأسطول الفرنسي فجأةً أمام الإسكندرية في أول يوليو 1798، ولم يكن ظهوره متوقَّعًا، ولذا فَقَدْ سيطر على المدينة في لحظات[13].
    عَلِم الأسطول الإنجليزي بوجهة الفرنسيين، وتوجَّه إلى الإسكندرية، وأدرك نابليون أن الإنجليز قد اكتشفوا مكانه، فأمر قائد البحريَّة أن يأخذ الأسطول الفرنسي فورًا إلى جزيرة كورفو باليونان بعد إفراغ حمولته من الجنود والمؤن في مصر، وذلك ليُجَنِّبه موقعةً خاسرةً أمام الأسطول الإنجليزي القوي، ومع ذلك لم يتمكَّن الفرنسيون من الحركة السريعة، فاضطرَّ قائد البحريَّة إلى الاختفاء بأسطوله في ميناء أبي قير القريب لكيلا يصطدم بالإنجليز[14].
    ترك نابليون نائبه كليبر Kléber في الإسكندرية، وتوجَّه بالجيش الرئيس جنوبًا في اتِّجاه القاهرة[15]. على الرغم من المفاجأة فإن مراد بك استطاع تكوين فرقةٍ مملوكيَّةٍ بسرعة[16]، وقابل الجيش الفرنسي عند مدينة شُبراخيت شرق دمنهور في يوم 13 يوليو[17][18]، ومع ذلك تعرَّض مراد بك لهزيمةٍ كبيرةٍ سريعة[19][20]، وأكمل الجيش الفرنسي طريقه إلى القاهرة[21]. في يوم 21 يوليو وصل الجيش الفرنسي إلى منطقة إمبابة شمال الجيزة، على بعد حوالي 25 كيلومترًا من الأهرام.
 
  • بادئ الموضوع
  • #4
  1. التقى الفرنسيون في هذا المكان وجيش المماليك الرئيس بقيادة مراد بك، وإبراهيم بك معًا، وحقق نابليون نصرًا حاسمًا عليهما، فقد قُتِل من المماليك ألفان، بينما لم يفقد الفرنسيون سوى تسعةٍ وعشرين جنديًّا[22]! عُرِفَت هذه المعركة بمعركة إمبابة، وعرفت -أيضًا- بمعركة «الأهرام» على الرغم من بعدها النسبي عنها، ولكن كانت الأهرامات الثلاثة هي المعلم الأشهر الذي يعرفه الفرنسيون في الجيزة، وقد وَرَدَ عن نابليون أنه قال لجنوده بعد هذه المعركة وهو ينظر تجاه الأهرام: تقدَّموا، وتذكَّروا أن أربعين قرنًا من الزمان ينظرون إليكم[23]! بعد المعركة فرَّ مراد بك إلى الصعيد جنوب مصر، بينما فرَّ إبراهيم بك إلى اتجاه سيناء[24].
    جاء وجهاء القاهرة إلى نابليون، وسلموه المدينة ليدخلها في 23 يوليو دون مقاومة[25]. أعلن نابليون للعلماء والشعب أنه صديقٌ للإسلام، وأنه حليفٌ للدولة العثمانية، وأنه جاء لمصر لتخليصها من المماليك المغتصبين لها من الدولة العثمانية[26][27]! هذه بالطبع كانت طرقًا دبلوماسيَّةً لتهدئة الشعب المصري، وتجنُّب المفاجآت؛ لأن اكتشاف كذب هذه الكلمات لن يأخذ وقتًا طويلًا. عمومًا دخل نابليون القاهرة، وثبَّت أقدامه فيها، وبعدها بقليلٍ عَلِمَ بتجميع إبراهيم بك لبعض القوَّات في منطقة الصالحية شرق القاهرة، فتحرَّك إليه بنفسه تاركًا على قيادة القاهرة الجنرال لويس دوسيه Louis Desaix.
    تمكن نابليون من الانتصار على إبراهيم بك في الصالحية فاضطرَّ المملوكي إلى الهروب إلى سيناء، ومنها إلى الشام، ولم يظهر في الصورة بعد ذلك[28]! عاد نابليون إلى القاهرة، ومنها أرسل فرقةً عسكريَّةً بقيادة دوسيه لمطاردة مراد بك في الصعيد، فتتبَّعته بإصرارٍ من مدينةٍ إلى مدينة، بدءًا بالفيوم، ومرورًا بأسيوط، وجرجا، والأقصر، وانتهاءً بأسوان في أقصى الجنوب، في رحلةٍ تجاوزت تسعة شهور! لم يتمكن دوسيه من الإمساك بمراد بك دائم الفرار، ولكنَّه تمكَّن من السيطرة بقوَّاته على جنوب مصر بشكلٍ تام[29]! كان نابليون في غاية الحذر، وعلى الرغم من قلَّة عدد جنوده بالقياس إلى حجم دولةٍ كبيرةٍ كمصر فإنه كان متابعًا لكلِّ شاردةٍ وواردة، ولقد أدركت مخابراته وصول فرقةٍ من مسلمي الحجاز سمعت بنبأ الحملة وأتت عن طريق البحر الأحمر إلى ميناء القصير لمساعدة المصريين، فأرسل من القاهرة فرقةً احتلت الميناء (على بعد أكثر من خمسمائة كيلو متر) وسيطرت على الموقف[30]!
 
  • بادئ الموضوع
  • #5
  1. كانت عمليَّة الاحتلال تسير بشكلٍ أسهل بكثيرٍ من المتوقَّع، وكان نابليون يُمنِّي نفسه بعد هذا الفتح السهل بتأسيس إمبراطوريَّةٍ سريعةٍ كبيرةٍ في الشرق، ومع ذلك فليس كلُّ ما يتمنَّاه المرء يُدركه! لقد اكتشف الأسطول الإنجليزي القدير بقيادة الأميرال الشهير هوارشيو نلسون Horatio Nelson مكان الأسطول الفرنسي في خليج أبي قير، فقام -بعد معركة يوم وليلة- في الأول من أغسطس، بحرقه بالكامل إلا سفينتين فقط تمكنتا من الفرار[31]! هكذا صار نابليون وجنوده محبوسين في مصر! عندما وصل الخبر إلى نابليون لم تَبْدُ عليه أيُّ علامات امتعاض، وأبرز لجنوده تفاهة الحدث، مع أن الأمر كان جللًا حقًّا[32]! كان الرجل رابط الجأش بصورةٍ لا تتكرَّر في التاريخ كثيرًا!
    وصلت الأخبار المزلزلة إلى إسطنبول، وكانت مفاجأةً كبرى للسلطان سليم الثالث؛ لأن فرنسا لم تُبْدِ أيَّ بادرة عداءٍ في السنوات السابقة. أعلن السلطان الحرب على فرنسا في 2 سبتمبر[33]، وبدأ في إعداد الجيش العثماني لمهمَّة تحرير مصر، وإن كان من المؤكَّد أنه في قرارة نفسه يعلم أن البون شاسعٌ بين القوَّتين، وأن إمكاناته العسكريَّة لا تسمح مطلقًا بحرب الجيش الفرنسي، وخاصَّةً تحت قيادة نجمه الأشهر نابليون!
    تلقَّى نابليون مفاجأةً أخرى في مصر بعد مفاجأة حرق السفن في أبي قير. لقد قامت ضدَّ الجيش الفرنسي ثورةٌ شعبيَّةٌ كبرى في القاهرة منطلقةً من جامع الأزهر[34]، وذلك في يومي 21 و22 أكتوبر 1798[35]. لم يكن الشعب المصري يُشارك عادةً في الخلافات السياسية التي تنشب بين القوى التي تحكم مصر على مدار القرون! لم يكن يتدخل على سبيل المثال في الحرب بين الطولونيين والإخشيديين، أو بين الإخشيديين والعُبَيديين، أو بين المماليك البحريَّة والبرجيَّة، أو بين المماليك والعثمانيين، لكنَّه في هذه المرَّة ثار وانتفض! السِّرُّ في ذلك يرجع إلى أن الغزاة نصارى وليسوا مسلمين. القضيَّة إذن كانت قتالًا في سبيل الله، والمشاعر كانت مختلفةً تمامًا عن تلك التي كانوا يشعرون بها تجاه القوى الأخرى المسلمة التي تحكم مصر. لم يكن المصريون يعبئون كثيرًا بكون القائد مملوكيًّا أو عثمانيًّا ما دام مسلمًا، ولكنهم كانوا يرفضون تمامًا أن يكون فرنسيًّا نصرانيًّا. قابل نابليون الثورة بعنفٍ مفرط، وضرب المساجد، وخاصَّةً الأزهر، بالمدافع[36][37][38][39]، وأعدم عددًا من محرِّكي الثورة، وتمكَّن من قمعها بعد أن قتل ألفي مصري، بينما قُتِل من الفرنسيين ثلاثمائة[40]، وعادت السيطرة الفرنسيَّة مُحْكَمة على القاهرة ومصر.
    لم يكن الوضع جيِّدًا في إسطنبول. كانت الخطوات تسير بمعدلٍ لا يوازي الحدث. كان السلطان قلقًا من تعرُّض جيوشه لهزيمةٍ فادحةٍ من الفرنسيين. كان السلطان واقعيًّا، ويُدرك أنه لم يكن قادرًا على استخلاص مصر من أيدي المماليك الضعفاء المنشقِّين عنه، فكيف باستخلاصها من الجيش الفرنسي، وقد سَحَق المماليك بكلِّ سهولة؟! في ظلِّ هذه الصورة القاتمة أتته نجدتان؛ الأولى متوقَّعة جدًّا، والثانية غير متوقَّعةٍ بالمرَّة! أمَّا الأولى فمن الإنجليز، عدوِّ الفرنسيين التقليدي، والبلد الذي ليس له حتى هذه اللحظة تاريخ عداءٍ مع العثمانيين، وأمَّا الثانية فمن الروس، العدوِّ الأكبر للعثمانيين، والمهدِّد الأعظم لحدودها، بل لوجودها!
    في ظلِّ هذه الأجواء السلبيَّة قَبِلَ السلطان بالنجدتين! إن أسوأ شيءٍ بالنسبة إلى أيِّ دولةٍ أن تكون احتياجاتها في أيدي أعدائها، خاصَّةً إذا كانت هذه الاحتياجات متعلِّقةً بمسألة الطعام والشراب، أو بمسألة الأمن والأمان، وهي هنا متعلِّقةٌ بهذا الأمر الأخير.
    إن فرنسا احتلت مصر كلَّها في غضون شهرٍ واحد، وهي قادرةٌ على احتلال الشام أيضًا، والخطوة القادمة قد تكون إسطنبول! في 3 يناير وَقَّع السلطان اتفاقيَّة دفاع مع الروس، وفي 5 يناير وَقَّعها مع الإنجليز[41]، وبعدها مباشرةً بدأ تجميع الجيوش العثمانية والروسية والإنجليزية، في دمشق، وجزيرة رودس[42]، في أوَّل عمليَّةٍ عسكريَّةٍ في التاريخ تجمع هذه القوَّات المتناقضة!
    وصلت الأخبار إلى نابليون في مصر. أدرك أنه لو انتظر في مكانه فستُباغته هذه القوات كلُّها في مصر، وحيث إنه لا يملك سفنًا للعودة فإن هَلَكَتَه محقَّقة. هنا قرَّر نابليون أن يمتلك زمام المبادرة، فانطلق بسرعةٍ لاحتلال فلسطين بغية الوصول إلى الشام؛ وذلك ليقطع الطريق على الجيوش البرِّيَّة التي ستتوجَّه إليه في مصر، ولينقل المعركة إلى أرضٍ أخرى أبعد من مصر؛ بحيث يُعطي لنفسه الفرصة للانسحاب إليها في حال الهزيمة، وفوق كلِّ ذلك فهو سيستفيد من عنصر المباغتة.
    ترك نابليون أكثر من نصف جيشه في مصر، وانطلق بثلاثة عشر ألف جندي إلى فلسطين عبر سيناء، وفي 12 فبراير 1799م احتلَّ العريش، وفي 25 فبراير احتلَّ غزة[43]. وصل نابليون في 3 مارس إلى يافا، وفيها ارتكب واحدةً من أبشع جرائمه! حاصر نابليون المدينة مدَّة أربعة أيَّام، وبعد تواصلٍ مع الحامية العثمانية بالداخل قَبِلَت الحامية بالاستسلام في مقابل تأمين أرواحها[44].
    في يوم 7 مارس 1799م دخل الجيش الفرنسي المدينة. غَدَرَ نابليون وقَتَل الأسرى جميعًا[45]! ليس هذا فقط بل انقلب على المدنيِّين فقتل الرجال والنساء والأطفال[46]. وصل عدد القتلى إلى أربعة آلاف وستمائة قتيل[47]! قتل نابليون ألفين وأربعمائة وواحد وأربعين واحدًا من هؤلاء طعنًا بالحراب توفيرًا للطلقات الناريَّة[48]!
    يُعَلِّق المؤرِّخ الإنجليزي فرانك ماكلين Frank McLynn على هذا الحدث بقوله: «هذه مجزرة فاحشة obscene butchery... إن ما ارتكبه نابليون في يافا هو جريمة حربٍ بكلِّ المقاييس»[49]! أمَّا المؤرخ الأميركي چين كريستوفر هيرولد Jean Christopher Herold فينقل شهادة أحد القادة الفرنسيين الذين شاهدوا المجزرة، وهو الميچور ديتروي Detroye الذي قال: «خلال مساء هذا اليوم، وصباح اليوم التالي، قتل الجنود الفرنسيون الهائجون الرجال، والنساء، والأطفال، من المسيحيين، والمسلمين؛ أيُّ جسمٍ يحمل وجه إنسانٍ كان يقع ضحيَّةً لغضب الجنود»!
    ثم يُعلِّق المؤرخ هيرولد على هذه الشهادة بقوله: «هذه شهادة عيان تصف المشهد المقرف sickening scene، وما زالت الصفحات ترتعش من الصدمة والخجل»! ثم ينقل هيرولد عدَّة مشاهد مفجعة لحوادث قتلٍ شرسة، أو اغتصابٍ لفتياتٍ صغيراتٍ معلَّقاتٍ بأجساد أمهاتهنَّ المقتولات، كما ينقل استمتاع الجنود الفرنسيين بقتل الرجل أو المرأة بعد سماع كلمات التوسُّل والاسترحام. يقول هيرولد: «إن هذه التصرُّفات من الجنود الفرنسيين تحتاج إلى دراسةٍ من الأطبَّاء النفسيِّين لا من المؤرِّخين»[50]! جديرٌ بالذكر أن هيرولد أطلق على الفصل الذي شرح فيه حملة نابليون على الشام هذا العنوان: «الجزَّارون في الأرض المقدَّسة» The butchers in the Holy Lands[51]!
    إن التاريخ العثماني ليفخر أنه على مدار ستمائة سنةٍ وأكثر لا يحوي صورةً مثل هذه ولا قريبًا منها، وذلك على الرغم من مئات المعارك الضارية التي قادتها الدولة ضدَّ أعداءٍ شرسين على جبهاتٍ متعدِّدة. إن العداء للأمم المحارِبة لم يدفع العثمانيين قط إلى التخلي عن إنسانيَّتهم، ولم يشهد تاريخُهم قائدًا مريضًا كنابليون، ولا جيشًا وحشيًّا كجيش الفرنسيين!
    واصل نابليون تقدُّمه شمالًا وحاصر عكا بدايةً من يوم 19 مارس. كانت المدينة الحصينة تحت قيادة أحمد باشا الجزار حاكم فلسطين القوي بجيشه الرئيس، وكانت قد أتته -أيضًا- فرقةٌ عثمانيَّةٌ من النظام الجديد الذي أسَّسه سليم الثالث، وهي فرقةٌ على درجةٍ عاليةٍ من الكفاءة[52]. -أيضًا- وصل الأسطول الإنجليزي إلى ميناء المدينة تحت قيادة البحري القدير السير سيدني سميث Sir Sidney Smith وأمدَّ حاميتها بالمؤن والسلاح. لهذه الأمور مجتمعة صابرت المدينة على الحصار. بقي نابليون محاصِرًا للمدينة، وأرسل كليبر لملاقاة جيشٍ عثمانيٍّ قادم من دمشق. في 16 أبريل التقى الجيشان عند جبل طابور Mount Tabor غرب بحيرة طبرية، وكانت المعركة سجالًا لأكثر من ثماني ساعات، إلا أنه في نهاية اليوم جاء نابليون بنفسه يقود فرقةَ إنقاذٍ غيَّرت الموقف تمامًا[53]! كان النصر حاسمًا للفرنسيين، حيث قُتِل من العثمانيين عدَّة آلاف، وتشتَّت البقيَّة[54]، ولم يفقد الفرنسيون سوى جنديَّين[55]! هذا على الرغم من أن الجيش العثماني كان يبلغ خمسةً وثلاثين ألفًا بينما كان الفرنسيون ألفين فقط (سبعة عشر إلى واحد) [56]! في الواقع كان فارق التسليح والتخطيط كبيرًا بين الطرفين. أمر نابليون بحرق القرى المحيطة بأرض المعركة، مع قتل عددٍ كبيرٍ من سكانها عقابًا لهم على الانضمام للعثمانيين[57][58]، ثم عاد بعد ذلك إلى حصار عكا.
    أعيت الحيل نابليون ولم يتمكَّن من إسقاط عكا!، بعد شهرين من الحصار، ومع خوف نابليون من دخول الجيش الإنجليزي في المعركة بشكلٍ مباشر، ومع علمه بتوجُّه الأسطول العثماني إلى مصر، ومع إشاعاتٍ بخسائر فرنسيَّة في حروبٍ أوروبية[59]، ومع تفشِّي الطاعون في جيش الفرنسيين، ومع احتمال حدوث ثورةٍ في مصر، اضطرَّ نابليون لهذه العوامل مجتمعة أن يرفع الحصار عن عكا في 20 مايو 1799[60]، بل اضطرَّ إلى العودة إلى مصر دون تحقيق أيِّ مكسبٍ حقيقيٍّ من معسكره العنيف في الشام! كانت الخسارة الفرنسيَّة كبيرة.
    قَدَّر المؤرِّخ الفرنسي لا چونكير La Jonquiére -بناءً على دراسة أرشيف وزارة الحربيَّة الفرنسيَّة- الخسائر في معارك الشام فقط على النحو التالي: قُتِل في الحروب ألف ومائتان، ومات من الطاعون ألف آخرون، وأصيب إصابةً بالغةً تمنع من استمرار القتال أو مَرِض مرضًا شديدًا، ألفان وثلاثمائة. هذا يعني أن الجيش فَقَدَ حوالي ثلثه في هذه الرحلة، مع العلم أنهم كانوا من قوَّات النخبة؛ حيث أخذ نابليون معه من مصر إلى الشام أفضل العناصر[61]. كانت خسارة المسلمين فادحةً -أيضًا- بل وأكثر! يقترب عدد القتلى من الجنود والمدنيِّين في غضون هذه الشهور الثلاثة التي قضاها نابليون في الشام من عشرة آلاف إنسان، هذا غير ألفين وثلاثمائة أسير[62].
    كان نابليون يحلم أن ينتهي من أمر الشام في أيام، وبعدها ينطلق إلى إسطنبول فيُسقطها، ومنها إلى إيران والهند؛ ليُؤسِّس إمبراطوريَّةً فرنسيَّةً شرقيَّة غير مسبوقة[63]! ولكنَّ أحلامه توقَّفت عند عكا، وأرجع هو السبب في ذلك إلى وجود السير سيدني سميث قائد الأسطول الإنجليزي، ولهذا كان يقول: «هذا الرجل هو الذي أفقدني قَدَري»[64]! يعني قَدَرَه في أن يكون إمبراطورًا على الشرق!
    بمجرَّد وصول نابليون إلى مصر، عَلِم بوصول العثمانيين إلى الإسكندرية. توجَّه قسم من الجيش الفرنسي مباشرةً إلى أبي قير حيث أنزل الأسطول العثماني عشرين ألف جنديٍّ بقيادة مصطفى باشا[65]. لم يكن الجيش العثماني مِقدامًا بالقدر الكافي، واختار المنهج الدفاعي على الرغم من أن الظروف العسكريَّة في صالحه تمامًا؛ فقد جاء مبكِّرًا، ومعه مدافع ثقيلة، وعدده كبير، وأهل البلد متعاونون، والجيش الفرنسي مرهقٌ من رحلة الشام. أحسب أنه لو كان يملك العزيمة لتمكَّن من الوصول إلى القاهرة وتغيير المعادلة لصالحه تمامًا، ولكنَّه تباطأ بشكلٍ غير مفهوم، وبدأ في تحصين قلعة أبي قير، وحفر الخنادق؛ لينتظر الجيش الفرنسي[66]! وبينما هو في تثاقله العجيب وصل إليه نابليون في سبعة آلاف وسبعمائة مقاتلٍ فرنسي[67]! تمَّ اللقاء في 25 يوليو 1799م، وفي غضون ساعاتٍ قليلةٍ حقَّق نابليون النصر الحاسم على الجيش العثماني[68]! تُعتبر هذه واحدةٌ من أسوأ المعارك في التاريخ العثماني كله؛ حيث «تلاشى» الجيش العثماني «كلُّه» بعد الموقعة! مات ثلاثة عشر ألفًا؛ ألفان قَتْلًا، وأحد عشر ألفًا غَرْقًا، وأُسِرَ خمسة آلاف منهم القائد مصطفى باشا، واختفى ألفان يحتمل أن يكونوا فرُّوا عن طريق البحر[69]! هؤلاء هم العشرون ألف جندي! تختلف المصادر في تحديد عدد الجيش العثماني، وتقسيم الضحايا بين قتيل، وغريق، وأسير، ولكن الجميع متَّفقٌ أن الجيش «تلاشى»!
    أجرى السير سيدني سميث مباحثات مع نابليون لإطلاق حلفائه الأسرى العثمانيين، وفي أثنائها أهدى لنابليون بعض أعداد الجريدة الإنجليزيَّة الشهيرة «لندن تايمز» London Times، وفيها أخبارٌ عن الهزائم المتكرِّرة التي تعرَّضت لها فرنسا في الأيَّام السابقة، وضياع كلِّ المكاسب التي كان قد حقَّقها نابليون قبل قدومه لمصر[70]! كانت الأخبار منقطعةً بين باريس ومصر بسبب تدمير الأسطول الفرنسي، وعدم قدرة سفنٍ فرنسيَّةٍ أخرى على المغامرة باختراق البحر الأبيض في وجود الأسطول الإنجليزي العتيد. هزَّت هذه الأخبار نابليون من الداخل، وكانت خطوةً بارعةً من سيدني سميث لا تقلُّ مهارةً عن خطواته العسكريَّة!
    على الرغم من انتصار الفرنسيين في أبي قير، وتأمين وجودهم في مصر، على الأقل بصورةٍ مؤقَّتة، فإن نابليون رجع إلى القاهرة، وهو في حالةٍ من الإحباط الشديد؛ فهزيمة فرنسا أمام الحلفاء الأوروبيين لن تجعل لبقائه في مصر معنى، وفي لحظاتٍ أخذ القرار المفاجئ بالعودة «منفردًا» إلى فرنسا!
    إن الجيش الفرنسي الآن بلا أسطول، ولا يستطيع العودة بكامله، أمَّا نابليون فطموحاته النهائيَّة ليست في مصر؛ إنما مصر مجرَّد محطَّةٍ في طريقه، وأحلامه تصل إلى العرش الفرنسي ذاته، بل تصل إلى إمبراطوريَّةٍ أوروبِّيَّةٍ وعالميَّةٍ كبيرة يكون هو على قمَّتها! غادر نابليون القاهرة خفيةً دون أن يُخبر جيشَه في أغسطس 1799م إلى الإسكندرية، ومنها إلى فرنسا، مستخلفًا كليبر على مصر[71]. وصل نابليون إلى سواحل فرنسا في 9 أكتوبر، وعملت الدعاية الكاذبة في فرنسا على تصوير حملته على مصر والشام في شكل النصر، فاستُقْبِل استقبال الفاتحين، واعتُبِر بطلًا قوميًّا، ولم يمر في قريةٍ ولا مدينةٍ من مكان نزوله على الساحل الجنوبي لفرنسا حتى باريس في الشمال إلا أقام له الشعب الاحتفالات والترحيب[72]! هذا على الرغم من الفشل الكبير الذي حدث لحملته؛ فقد غَرِق أسطولها بالكامل، ولم تتمكَّن من فتح عكا، وانسحبت خاسرةً من الشام، وخسرت حتى الآن ثلث جنودها، والمستقبل الذي ينتظر الجنود المحصورين في مصر بلا أسطولٍ مستقبلٌ مجهول، خاصَّةً في ضوء تدخُّل جيوش الإنجليز، والروس، والعثمانيين.
    بعد شهرٍ واحدٍ من وصوله إلى فرنسا، وفي 9 نوفمبر 1799م، قام نابليون بانقلابٍ عسكريٍّ على الرئاسة، وأسَّس حكومة القناصل، وهي رئاسةٌ مكوَّنةٌ من ثلاثة قناصل، كان هو القنصل الأوَّل فيها[73]، بينما كان دور القنصلين الآخرين استشاريًّا فقط؛ أي صار نابليون بونابرت هو الرئيس الفعلي للبلاد، وهو في الثلاثين من عمره!
    أدرك كليبر أن وجوده في مصر صار مؤقَّتًا، خاصَّةً أن نابليون صار منشغلًا في فرنسا بأعمالٍ كبيرة، وليس من المتوقَّع أن يعود قريبًا بنجدة. هذا دَفَع كليبر إلى عقد معاهدة العريش في 24 يناير 1800. كانت المعاهدة بينه وبين الصدر الأعظم للدولة العثمانية يوسف ضياء الدين باشا، وذلك في وجود قائد الأسطول الإنجليزي سيدني سميث، وكان الاتفاق على رحيل الجيش الفرنسي على سفن إنجليزية بكامل أسلحتهم.
    لم تدخل بريطانيا طرفًا في المعاهدة إنما كانت مراقبًا فقط، على الرغم من أن المعاهدة عُقِدَت على متن سفينة سيدني سميث، وكان سميث يتشكَّك في قبول حكومته لهذه النهاية لحملة نابليون. بعد عودة كليبر إلى القاهرة للتجهز للرحيل وصلت رسالة من الحكومة الإنجليزية تطلب من سيدني سميث عدم قبول توقيع معاهدة منفردة بين الدولة العثمانية وفرنسا، بل لا بُدَّ أن تكون بريطانيا طرفًا فيها، كما تطلب أن يتعامل الإنجليز مع الفرنسيين كأسرى حرب، وبالتالي عليهم تسليم كامل سلاحهم، وما تبقى من سفنهم، وما حصَّلوه من نفائس مالية أو علمية أثناء وجودهم في مصر.
    أرسل سيدني سميث إلى كليبر في القاهرة يخبره بإلغاء معاهدة العريش، وبالشروط الجديدة[74]. غضب كليبر غضبًا شديدًا، ورفض الشروط الإنجليزيَّة كلَّها، وقرَّر المواجهة العسكريَّة. في هذه الأثناء كان العثمانيون قد حرَّكوا جيشًا كبيرًا بقيادة الصدر الأعظم إلى القاهرة بلغ ستِّين ألف مقاتل، لاستلامها بعد خروج الفرنسيين[75]. -أيضًا- قرَّرت بعض الرموز الشعبيَّة الكبرى في القاهرة -مثل: عمر مكرم نقيب الأشراف، وأحمد المحروقي شيخ التجار، ومصطفى البشتيلي أحد كبار تجار الزيوت- القيام بتحريك العامَّة للانقلاب على الجيش الفرنسي[76]، مستغلِّين خروج الجيش الفرنسي لقتال العثمانيين.
    في يوم 20 مارس خرج كليبر لملاقاة الجيش المشترك للعثمانيين والمماليك، وذلك في منطقة هليوبوليس Heliopolis شمال شرق القاهرة (حي عين شمس الآن، وهي قريبة من المطرية، ولذلك تُعْرَف الموقعة بالمطرية كذلك)، وهناك -على الرغم من التفوُّق العددي الكاسح للعثمانيين- تمكن كليبر من إلحاق هزيمةٍ فادحةٍ بهم، مع فرارٍ كاملٍ للجيش العثماني[77][78]! تُبْرز هذه المعركة الحالة المزرية التي وصل إليها الجيش العثماني في هذه الفترة، والبون الشاسع بينه وبين الجيوش الحديثة، ولو كانت قليلة! في يوم المعركة نفسه قامت بالقاهرة ثورةٌ كبيرةٌ ضدَّ الفرنسيين استُخدمت فيها الأسلحة والبارود، وكان منشأ الثورة من حيِّ بولاق[79]، وقد شارك في هذه الثورة إبراهيم بك قائد المماليك الذي كان قد فرَّ قبل ذلك إلى الشام، وعاد الآن مع دخول الجيش العثماني مصر[80]، ويبدو أنه قد وصل إلى اتِّفاقٍ مع الدولة العثمانية.
    قُتِل عددٌ كبيرٌ من الفرنسيين في الثورة في أيَّامها الأولى[81]، ثم عاد كليبر إلى القاهرة بعد ثمانية أيَّامٍ من انتصاره في هليوبوليس ليجدها في حالة هياجٍ قصوى. جمع كليبر جنده، وهجم على القاهرة، واستخدم المدافع الثقيلة في قصف المدينة، وسقط الشهداء في كلِّ مكان[82]. في الوقت نفسه اتِّفق كليبر مع مراد بك المملوكي على أن يُعطيه ولاية الصعيد كتابعٍ له في مقابل أن يمدَّه بالمؤن والبارود في قمعه للثورة، وفي مقابل -أيضًا- تهدئة الناس للوصول إلى اتِّفاق[83]. كان قمع كليبر للمتظاهرين شديد العنف، وتمكَّن بعد جهدٍ من إعدام مصطفى البشتيلي، ومصادرة أملاك أحمد المحروقي، وفرض السيطرة الكاملة على المدينة، كما استمر القتل في المصريين بشكلٍ بشع[84] ممَّا دفع قادة العثمانيين والمماليك إلى قبول الجلوس للتفاوض مع كليبر. حدث الاتفاق في 21 أبريل 1800 بعد شهرٍ من الثورة، وفيه وافق الجيش العثماني ومماليك إبراهيم بك على الانسحاب إلى حدود سوريا، وعلى أن تتوقف الثورة تمامًا، في مقابل أن يعفو كليبر عن سكان القاهرة[85]، وهكذا أخمدت المقاومة تمامًا. غادر إبراهيم بك المملوكي مع الجيش العثماني إلى سوريا[86]، أمَّا مراد بك المملوكي فقد أُصيب بالطاعون فانعزل[87]، وبذلك صفا الجوُّ لكليبر.
    في 14 يونيو 1800 تمكن طالب سوري أزهري اسمه سليمان الحلبي من طعن كليبر عدَّة طعنات أدَّت إلى وفاته[88]، فتسلَّم الجنرال مينو Menou قيادة الجيش الفرنسي بعده[89]، ومن الجدير بالذكر أن مينو كان قد تحوَّل إلى الإسلام قبل شهور، وتزوَّج من مصريَّة مسلمة، ورغب في البقاء في مصر، وهذا جعل بينه وبين الفرنسيين حاجزًا نفسيًّا؛ فقد كانوا جميعًا يرغبون في العودة إلى فرنسا بعد هذه الحملة الطويلة[90]. أُعْدِم سليمان الحلبي بعد محاكمةٍ سريعة، وهدأت الأوضاع نسبيًّا في القاهرة[91].
    كان من الواضح أن أمور الجيش الفرنسي تتَّجه إلى الأسوأ، والمسألة مسألة وقت. هذا شجَّع الجيشين العثماني والإنجليزي على القيام بعمليَّةٍ مشتركة، فقاموا بإنزالٍ بريٍّ في أبي قير في مارس 1801، فخرج مينو لمحاربتهم، ولكنَّه هُزِم منهم في 21 مارس، وارتدَّ إلى الإسكندرية متحصِّنًا بها[92]. توجَّه الجيشان العثماني والإنجليزي إلى القاهرة، وبعد حصارها ومفاوضاتٍ طويلةٍ قَبِل قائد الحامية الفرنسيَّة بليار Belliard الاستسلام على شروط معاهدة العريش، فقَبِل منه الإنجليز والعثمانيون، وسقطت القاهرة في أيديهم في 10 يوليو[93].
    رجع الإنجليز والعثمانيون إلى الإسكندرية، وحاصروها وفيها مينو من 17 أغسطس إلى 2 سبتمبر حين قَبِل الاستسلام كذلك، فرُحِّل وباقي رجال الحملة الفرنسية[94]. سلَّم الفرنسيون الإنجليز نفائس كثيرة أخذوها من مصر، وكان من بينها الحجر الذي لا يُقَدَّر بثمن؛ حجر رشيد[95]! (وصل إلى لندن في 1802 ثم نُقِل إلى المتحف البريطاني British Museum بلندن منذ عام 1803، وما زال به حتى الآن[96])!
    بذلك انتهت الحملة الفرنسية، وأُغلقت صفحة مؤلمة من صفحات التاريخ المصري، والعثماني، والإسلامي بشكلٍ عام، وكان أشدُّ الأمور إيلامًا فيها أن المسلمين لم يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم؛ إنما احتاجوا إلى الإنجليز والروس، وهذه طامَّةٌ كبرى، وبليَّةٌ عظمى، أشدُّ من إراقة الدماء، وضياع الأموال[97].
 
جهود مميزة واضحة
شكرا للطرح القيم
 

أقسام الرافدين

عودة
أعلى أسفل