• منتديات شباب الرافدين .. تجمع عراقي يقدم محتوى مميز لجميع طلبة وشباب العراق .. لذا ندعوكم للانضمام الى اسرتنا والمشاركة والدعم وتبادل الافكار والرؤى والمعلومات. فأهلاَ وسهلاَ بكم.

البرجسونيّة

2019-10-27
3,072
العراق
جوهرة
დ12,945
الجنس
أنثى
الفلسفة البرجسونية

البرجسونيّة: مذهب فلسفي معاصر وضعه برجسون عام 1941 م،تغلب عليه النزعة الروحيّة ويقوم على التطوّر الخلاّق ويعد ردّ فعل للنزعة الماديّة في أواخر القرن الماضي

الفلسفة والعلم من منظور برجسوني



الكاتب: د.الطيب بوعزة


تعد الفلسفة البرجسونية من أشهر فلسفات القرن العشرين ، التي وقفت موقفا نقديا من العقلانية والعلموية على حد سواء ، مبلورة رؤية فلسفية جديدة متميزة. ولمقاربة هذه الرؤية والوقوف عند ملامح جدتها نختار الانطلاق من موقف برجسون من سؤال العلم. ذلك أن نقده للتصور العلمي مدخل لفهم مجمل منظوره الفلسفي.
فما هي رؤية برجسون للإشكالية العلمية؟ وما هي المعالجة التي اقترحها لإشكال علاقة الفلسفة بالعلم؟ وكيف استطاع، في مناخ فلسفي فرنسي مشبع بوضعية أوجست كونت وسان سيمون، أن يُعيد للتأمل الفلسفي قيمته ، ويجعل منه ضرورة مكملة للمعرفة العلمية ؟
بين وضعية أوجست كونت وحدسية برجسون:
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان السؤال الاشكالي الذي هيمن على الوسط الفلسفي هو سؤال جدوى الفلسفة في زمن العلم. وفي فرنسا خاصة كانت وضعية أوجست كونت تعلن موت الفلسفة ، بمدلوها الكلاسيكي ، وأسلوبها المنهجي في التفكير القائم على التأمل العقلي والأقيسة المنطقية، رائية أن الوظيفة المتبقية للفيلسوف هي تنسيق نتائج العلوم الدقيقة والتركيب بين التخصصات؟ أي بعبارة استهجانية يمكن أن أقول: إن الوظيفة التي أبقاها كونت للفيلسوف لم تكن تتعدى وظيفة سكرتير للعالِم!
إن الفارق بين التفكير الفلسفي والتفكير العلمي الذي حاولت الوضعية الكونتية توكيده ، لم يكن فارقا في موضوع البحث، بل فارقا في الأسلوب المنهجي للبحث. حيث تثمن الوضعية الموقف المنهجي الفيزيائي المؤكد على وجوب فصل الذات عن الموضوع ، ناظرة إلى أن هذا الانفصال هو شرط الموضوعية ، كما أنه من مستلزمات المنهج الإستقرائي الذي يقوم أساسا على إعطاء الكلمة للموضوع و الإنصات له بدل الإنصات للذات. وهكذا تم تقديم الموقف المنهجي القاضي بفصل الذات عن الموضوع، كمقصد لا يمكن تجسيده إلا بالمنهج العلمي - التجريبي خاصة-؛ فهو حسب النزعة الوضعية المنهج الوحيد القادر على إيصال الإنسان إلى معرفة حقيقية ، ليس بموضوعات الطبيعة فحسب ، بل حتى بالموضوع الإنساني (النفسي والاجتماعي) .
وهذه النتائج التي تخلص إليها الوضعية الكونتية ، هي بالضبط ما يناهضه المشروع البرجسوني . صحيح إن البرجسونية لم تتخل عن مفهوم العلم ، على الرغم من العداء الذي استحكم بين نمطي التفكير الفلسفي والعلمي عند نهاية القرن 19 ، و< <القطيعة>> التي أخذت ترتسم بينهما . فبرجسون إن انتقد العلم والنزوع الوضعي ، فإنه يستبقي مفهوم العلم ، ويعيد تحديده ، ووصله بالطموح الفلسفي ، حيث يقول: < < إن التفسير الذي ينبغي أن نحكم عليه بالقول : " إنه تفسير جيد " ، هو الذي ينخرط في موضوعه . فالتفسير العلمي يمثل الدقة المطلقة و البداهة الكاملة المتناهية .>> . لكن من الملاحظ في هذا النص ، أن برجسون إن استبقى لفظ العلم فإنه في تحديده له ، ولإجرائيته المنهجية يختلف مع التحديد الوضعي . فالتفسير الذي يستحق صفة العلمية عنده هو التفسير الذي يتصل ويندمج مع موضوعه ، وفي هذا التحديد اختلاف و تضاد مع المفهوم العلمي الكلاسيكي القائم أساسا على الفصل بين الذات والموضوع ، رائيا في هذا الانفصال الإمكانية الفعلية لتأسيس تفسير علمي للموضوع ، سواء في المجال المادي أو في المجال الإنساني .
وهنا يبرز أيضا اختلاف آخر ، فإذا كان الحل الوضعي لإشكالية العلاقة بين الفلسفة والعلم ، يتلخص في تجريد الفلسفة من منهجها وموضوعاتها وتحويلها إلى < <فلسفة العلوم>>، وتوسيع إستخدام المنهج العلمي ليستوعب حتى مجالات الحياة الإنسانية ، فإن برجسون يقدم حلا بديلا ، يتمثل في تقسيم المجال بين الفلسفة والعلم ، ومن ثم فهو ينادي بتكامل هذين النمطين من المعرفة ، بل أكثر من ذلك يؤسس برجسون ممارسة المنهج الفلسفي (الحدس) على ما تحصل سابقا من الممارسة العلمية.
فكيف استطاع برجسون أن يوفق بين النزعتين العلمية والفلسفية ، ويؤسس تكاملهما ؟ وما هي مبرراته المعرفية التي بنى عليها ضرورة ما يمكن أن نسميه بتقسيم المجال بين الفلسفة والعلم ؟
في تكامل العلم والفلسفة:
إذا كان المشروع الفلسفي البرجسوني ، لا يخلص إلى إستبعاد العلم ، بل ينادي باستحضاره ، ويعترف بقيمته ، فإنه في الوقت ذاته ينتقد < <إمبريالية العلم >> ، أي تجاوزه وتخطيه لمجاله الجغرافي، وغزوه لمجالات أخرى يراها برجسون لا تتناسب مع أدواته المنهجية ، ولذا ينادي بضرورة إستبقاء المنهج العلمي بين حدود مجاله .
فما هو هذا المجال المنسجم مع المقاربة العلمية ؟
يميز برجسون بين مجالين :
ـ المكان : الذي يمكن مقاربته بعقلية تحليلية تجزيئية ، أي يمكن للعلم الاشتغال عليه .
ـ ومجال الديمومة : التي ينبغي مقاربته بالمنهج الفلسفي ، أي منهج الحدس (بمدلوله البرجسوني).
وللحدس كما هو معلوم في الفلسفة البرجسونية قيمة محورية لا يعادلها أي مفهوم آخر من المفاهيم التي اختار تأثيث جهازه المفاهيمي بها؛ إذ يقول في رسالة له إلى هوفدينغ :< < كل إختصار لآرائي سيشوهها في كليتها ، وسيعرضها لسيل من الإعتراضات ، إذا لم يضع في الموقع الأول ، وإذا لم يرجع كل مرة وحين ، إلى ما أعتبره مركز مذهبي ، وهو حدس الديمومة >>. أما التحليل فهو تجزيء ، ومن ثم لا يمكن النفاذ إلى حقيقة الديمومة بل أكثر من ذلك إن : < < التحليل - يقول برجسون - العملية التي ترد الشيء إلى عناصر معروفة مقدما ، أي عناصر مشتركة بين هذا الشيء وبين أشياء أخرى . فالتحليل إذن هو التعبير عن شيء بما ليس إياه.>> (1).وانطلاقا من هذا التمييز والتحديد لمجال الاشتغال، فإن برجسون يؤكد قيمة كل من العلم والفلسفة وتكاملهما ، حيث يقول: < < فإذا كان من واجب العلم أن يمد عملنا إلى الأشياء ، وإذا كنا لا نستطيع العمل إلا بالمادة غير الحية كأداة ، فإن العلم يستطيع ، بل يجب عليه أن يستمر في معالجة الحي ، كما كان يعالج غير الحي . ولكن سيكون من المعلوم أنه كلما توغل في أعماق الحياة ، فإن المعرفة التي يزودنا بها تصبح معرفة رمزية ، وتتناسب مع إمكانية العمل . وإذن يجب على الفلسفة في هذا المجال الجديد أن تتبع طريق العلم ، حتى تضيف إلى الحقيقة العلمية معرفة من نوع آخر ، يمكن أن نطلق عليها إسم المعرفة الميتافيزيقية . ومن ثم تنهض معرفتنا جميعا سواء أكانت علمية أم ميتافيزيقية . فنحن نوجد في الحقيقة المطلقة ونجول فيها ونحيا . .. ونصل إلى لب الوجود في أعماقه عن طريق التقدم المشترك للعلم والفلسفة .>> (2).
لكن السؤال الذي ينبغي طرحه على برجسون ـ وهو السؤال التقليدي ، الذي طرح ، منذ كانط بتعبير آخر عند كل مقارنة بين العلم والفلسفة ـ هو – بلغة برجسونية ـ : ما الذي جعل العلم يتقدم في استكشاف المكان ، ويحقق نجاحات ملحوظة ، بينما الفلسفة لا تزال تتخبط في بحث مجالها الديمومي ؟
إن السبب حسب برجسون ، يكمن أساسا في طبيعة الموضوعين اللذين يتعامل معهما العلم والفلسفة ، فموضوع العلم (أي المكان) موضوع قابل للتجزيء والحساب. والعلم هنا يستثمر آلاف السنين من الجهود بدءا من الحس المشترك إلى اللحظة العلمية ،< <... إن العلم الوضعي نتاج للعقل ... وسواء أقبل الناس أم رفضوا فكرتنا عن العقل ، فإن هناك نقطة يسلم لنا بها الجميع ، وهي أن العقل يشعر بأنه في مجاله الطبيعي ... عندما يوجد وجها لوجه مع المادة غير العضوية >> (3) ، بينما الفلسفة تتعاطى مع الديمومة ، أي مع مجال " تطور خلاق " ، متغير دوما ، مسكون بإيقاع التجديد والإبداع والخلق، وهذه الديمومة التي تمثل عمق ذواتنا وعمق العالم ، تستلزم القطيعة مع عوائدنا في التفكير ، ومسبقاتنا الذهنية المتراكمة ، إنها تتطلب حدسا أصيلا.
في استعصاء الموضوع الفلسفي(حقل الديمومة):
هكذا نلحظ أن الموقع الذي تشتغل فيه الفلسفة موقع صعب . وما يزيد المهمة الفلسفية إستعصاء وعسرا ، هو أن التفكير الفلسفي ملزم، لكي يبلغ نتائجه إلى الآخر ، بأن يصطنع اللغة المتداولة . والحال أن هذه اللغة هي بطبيعتها قاصرة عن نقل الديمومة . ولذا فتقدم العلم وبطء سير الفلسفة ليسا إذن بظاهرة مستغربة، بل الأمر مفهوم بالرجوع للشروط الذاتية والموضوعية التي تؤسس لهذين النمطين من المعرفة البشرية :
فمن ناحية الموضوع إن العلم استكشاف للمكان، والمكان مجال ثابت قابل للإجرائيات المنهجية < <العلمية>> من ملاحظة وتحليل وتجزيء وتركيب . ومن ناحية الذات ، يستثمر العلم مكونين أساسيين في الذات العارفة ، لهما خبرة واعتياد على التجزيء والتحليل ، إنهما العقل واللغة ، وهما أداتان تنسجمان بتناغم كامل مع المجال المكاني ، فالعقل حسب برجسون نشأ مرتبطا بالمادة موصولا بها، وهذه النشأة المادية للعقل وتعاطيه الطويل مع المعطى المادي كون فيه عوائد أو مقولات جامدة ثابتة ، تنزع بطبيعتها إلى تجميد الظواهر وتجزئتها . بل تجميد حتى المتحرك. والعقل عندما يبحث الظواهر ، يبدأ أولا بتثبيتها وتجميدها، وهو يمارس هذا التجميد والتثبيت بمهارة متقنة راكمها خلال آلاف السنين ، كما يستعين على ذلك بمكون آخر من نفس طبيعته التجزيئية التجميدية ، أي المكون اللغوي . فاللغة البشرية هي أصلا مجموعة ألفاظ منفصلة مجزأة ، ومهارة التعبير اللغوي هي أساسا إلتقاط للظواهر وتجزئتها و فصل بعضها عن بعض ، وحشوها وتجميدها في ألفاظ و كلمات . ثم إن ألفاظ اللغة تتسم بالعمومية ، إذ تعبر عما هو عام لا عما هو خاص ، لأن المعجم اللغوي معدود محدود ، ومن ثم فهو لا يعبر إلا على ماهو مشترك وعام ، الأمر الذي يجعل هذا المعجم عاجزا عن احتواء الخصوصية و الإمساك بالفرادة.
وبناءا على هذين التحديدين لطبيعة اللغة والعقل ينتهي برجسون إلى القول بأنهما ينسجمان مع بحث مجال المكان ، ولكنهما قاصران عن بحث مجال الديمومة .
و يقدم برجسون تحديدا جديدا لمفهوم الإدراك ، فإذا كان الشائع في الإسهام الفلسفي ، أن الإدراك ذو طبيعة تجريدية ، فهو عند برجسون ذو طبيعة عملية منفعية ؛ فالإنسان لا يدرك إلا مافيه منفعة له، يقول برجسون في كتابه < <الضحك>> أن الانسان لا يدرك الأشياء التي لايرى فيها منفعة له (4).وبسبب من هذا الطابع المنفعي الذي يسم الإدراك البشري ، فإن الإدراك يتسم بالعمومية ، أي عدم إدراك خصوصية الأفراد ، وتقديمهم كذوات متميزة . وهنا يمكن التذكير بالتحديد الأرسطي للعلم في كتابه < <الميتافيزيقا>> حيث يقول < < لا علم بما هو فردي ، بل العلم علم بالكلي>> (5) ، إن هذا التجاوز لما هو فردي هو حسب برجسون تجاوز لحقيقة الكائن .
ولكن الإدراك العقلي بطبيعته هذه ، يحقق نتائج عندما يتجه إلى مجال المكان ، أي عندما يتجه إلى دراسة الطبيعة غير العضوية ، وهذا ما حقق نجاحات العلم . ولكن عندما ينتقل الإدراك العقلي إلى مجال الديمومة ، أي إلى مجال الحياة ، ويريد تطبيق أساليب العلم على هذا المجال ، فإنه يتعسف على موضوعه . إن مجال الديمومة لا يمكن للعلم أن يقاربه ، بل وحدها الفلسفة الحدسية قادرة على ذلك . إذ أن هذا المجال يتطلب انتقالا من منهج الإدراك إلى منهج الحدس ، فإذا كان العلم يتأسس في نهجه على فصل الذات عن الموضوع ، فإن مجال الديمومة يتطلب اتصال الذات بالموضوع ، واندماجها معه ، بل تعاطفها معه ، وهذا الإندماج والتعاطف هو ما يحقق المعرفة . ولكن هذه المعرفة بطبيعتها كمعرفة حدسية تستهدف المطلق ، هي معرفة < < ميتافيزيقية >> تعجز اللغة عن نقلها ، فاللغة بنشأتها وطبيعتها المادية التجزيئية لا تستطيع احتواء تيار الديمومة الدفاق المتصل . < < فإذا كان ثمة وسيلة تمكننا من إدراك الواقع بدلا من أن نعرفه معرفة نسبية ، وسيلة تمكننا من وضع أنفسنا في الواقع بدلا من النظر إليه من جهات مختلفة ، وسيلة تتيح لنا أن ندركه إدراكا مستقلا عن أي تعبير أو ترجمة أو تمثيل رمزي ، فإن الميتافيزيقا هي هذا نفسه . فالميتافيزيقا هي إذن العلم الذي يطمع في الإستغناء عن الرموز .>> (6) .
إن الحدس إذن هو السبيل الوحيد إلى مقاربة الديمومة . ومن ثم من الخطأ المناداة بالمنهج العلمي وحده ، وتشميله على المجالين معا(المكان والديمومة) والتخلي عن الفلسفة .
نقد الديكارتية:
ولكن إذا كان برجسون ينتقد الوضعية في نفيها للمنهج الفلسفي ، فإنه ينتقد أيضا المنهج الديكارتي الحدسي؛ لأن الحدس الديكارتي إنطلاق من الذات مباشرة ، من فطريتها و بداهاتها المطلقة ، مع إستبعاد للعلوم . فإذا كانت الديكارتية واثقة وثوقا دوغمائيا من حدسها العقلي ، ترى فيه وحده إقتدارا مطلقا على بلوغ الحقيقة . فإن الفلسفة البرجسونية ذات فهم جديد للحدس ، إذ لا ترى فيه ممارسة تلقائية من داخل الذات ، في استبعاد لمعارف العصر وعلومه ، بل إن الحدس البرجسوني هو ممارسة لاحقة، أي فعل معرفي بعدي يتطلب إبتداء حضور معرفة عميقة بالناتج المعرفي لعصره ، ثم حدس ما يتجاهله العلم أو بالأحرى ما ينفلت من مقاييسه المنهجية التجزيئية ، أو يعجز عن النفاذ إليه بأدواته الإدراكية والقياسية المكانية . وهنا إذ تؤكد البرجسونية ضرورة الفلسفة في زمن العلم ، فإنها تؤكد في ذات الوقت تكاملها معه، وضرورتهما معا للثقافة الإنسانية .
إن مفهوم العلم حسب برجسون ، نهج في التفكير يتأسس على أسلوب الإدراك العقلي والملاحظة العملية النفعية ، والرؤية العلمية في بحثها عن العلاقات ، لابد أن تجزئ الظواهر وتعزلها عن بعضها البعض، ثم تحاول بعد ذلك تركيبها. ولكن هذا المنهج التحليلي التجزيئي الذي تنتهجه الرؤية العلمية عاجز عندما يطبق على الديمومة والحياة ؛ لأنه ينتهي إلى تمويت الحي ، وإفقاده خصوصيته ، فالتحليل والتجزيء إيقاف للديمومة، والتركيب لن يعالج هذا التمويت ؛ لأنه لن يكون سوى تركيب لأجزاء جامدة مفرغة من دفق الحياة .
وانطلاقا من هذا المفهوم للعلم ، فإن الممارسة العلمية تنتهي إلى تنصيب إشكال خطير ، هو إفتقار الثقافة البشرية من معرفة المجال الأهم ، مجال الحياة والديمومة . وهذا الإفتقار لن يعالج إلا باستحضار الفلسفة ، وممارسة نهجها الخاص المتميز أي < <الحدس>> . وهذا ما يؤكد تكامل كل من الفلسفة والعلم ، و ضرورة حضورهما.
نحو تقييم المشروع البرجسوني:
لكن النسق البرجسوني ، ليس بهذا السمت من الإنسجام والترابط ، بل لا يخلو من نقائض ومفارقات . وهي مفارقات أراها تصيب صلب هذا النسق ومركزه المحوري أي " حدس الديمومة " ! فإذا كان المبرر الأكبر لحضور الفلسفة هو وجود مجال < <الديمومة >> ، وعجز العقل والإدراك وأدوات القياس العلمي عن إدراكه والنفاذ إليه ، وعجز اللغة عن نقله والتعبير عنه ، فإن السؤال/الإعتراض الذي ينتصب هنا ، هو كيف ستفكر الفلسفة في مجال الديمومة ؟ ألن تفكر فيه باللغة ؟ وهل بالإمكان إيجاد تفكير بلا لغة ؟ هل يمكن حضور فكرة خارج تجاويف اللفظ والعبارة ؟
لقد أكد الدرس اللساني ، والأبحاث السيكولوجية هذا التلازم بين فعل التعبير وفعل التفكير ، بل انتهت أبحاث أخرى إلى أكثر من التلازم أي التماهي بين الفكر واللغة . وكلا الأطروحتين سواء القائلة بالتلازم أو القائلة بالتماهي ، تصيب وتشكك في مسألة إمكانية حدس الديمومة ، ما دام برجسون يقول بعجز اللغة عن الإمساك بها .
هذا بالنسبة لمرحلة حدس مجال الديمومة . وإن نفس المفارقة نراها تنتصب من جديد في مرحلة ما بعد الحدس ، هذا إذا إفترضنا جدلا إمكانه . إذ بعد الحدس يظل السؤال مطروحا ، وهو كيف نوصل ونعبر وننقل إلى الآخرين نتيجة حدسنا؟ أليس باللغة ؟ فإذا كانت هذه اللغة عاجزة عن نقل الديمومة ، أليست النتيجة هي استحالة توصيل نتائج الحدس إلى الآخر ، أم أن < < ... في وسع لغة الخيال ـ كما يقول برجسون ـ حين لا تهدف إلى غير الإيحاء ، أن تقدم إلينا رؤية مباشرة ( حدسية ) في حين أن اللغة المجردة التي ترجع إلى أصل مكاني وتطمع في أن تعبر ، تدعنا في أفق المجاز أكثر الأحيان .>> (7)
هل يكفي لتغطية هذه المفارقة البنيوية ، تعلق برجسون بلغة الخيال ؟
إن المشروع البرجسوني مثله مثل التفكير الصوفي تعترضه دائما تلك المفارقة اللسنية ، إذ بنقده للغة ووصفها بالعجز عن نقل الحقيقة ، يرتد إليه نفس سلاح النقد ، فيصاب الخطاب اللغوي الذي ينتجه بكونه خطابا مغلوطا إن زعم امتلاك واحتواء الحقيقة ، ما دامت مقدماته المنهجية تؤكد عجز اللغة عن استيعاب الحقيقة والإمساك بها !
 
القائمة الجانبية للموقع
خرّيج وتبحث عن عمل؟
تعيينات العراق
هل أنت من عشاق السفر حول العالم؟
إكتشف أجمل الأماكن
هل أنت من عشاق التكنولوجيا؟
جديد التكنولوجيا
عودة
أعلى أسفل