غزل
مراقبة عام شباب الرافدين
في المشفى وبعد ولادتي أخبروني بأن طفلي مصاب بمتلازمة داون، بكيت.. لا أعلم لِمَّ بكيت ولكني لم أُرد أن آتي بطفل يعاني في هذا العالم.. اقتربت مني الممرضة بهدوء وهي تحمله، تلقيته بلهفة وأنا أخبئة كلي لي، كنت أودعه كل قبلاتي ودموعي وفرحتي واضطرابي.
أسميتهُ كامل، فواللهِ إنه في نظري كان كاملًا لا ينقصه شيء.
توالت السنين ولم يشأ الله أن ألد ثانيةً....
ولأن صبر زوجي قد نفذ، ولأنه لا يعترف بصغيري على أنه شخص كامل، وهو يريد ذرية تخلف من بعده.. تزوج ورزقه الله بصبيين رائعين...
كنت أُلملم شتات قلبي كل مساء بمفردي، أبكي فأجد يد صغيرة تمسح على خدي وتنظر لي بحزن.. فأحتضنه بعنف لا أقصده، وأتمم من بين دموعي.
- أنا أسفة، أسفة لأني جئت بك في عالم كهذا، ولكني ورب محمد أُحبك، أحبك كما لم أحب مخلوقًا من قبل.. ويشهد الله أنك في قلبي أجمل الخلق.
ولأن قلبي كان قد فاض طلبتُ الطلاق، ووافق.. هكذا وببساطة لأنه يراني أرض بور لا زرع منها ولا ثمار.
توالت الأيام والسنين ومرّ العمر..
وفي يوم بلغني أن أبو ابني مريض بشدة ويعاني ألمًا لا يجعله يبرح من مكانه، وأن أولاده وزوجته أودعوه في دار مسنين لأنه أصبح عبئًا ثقيلًا عليهم، وبحكم كل شيء كان بيننا يومًا.. ذهبتُ إليه.
كنت أخطو خطواتي وأنا أرى شريط حياتي أمامي، لقائنا الأول.. فترة خطوبتنا.. اعترافه الأول بالحب.. زواجنا.. وأول بشرى لمولود جديد! ومن هنا كان كل شيء بعدها ضباب.
عندما سمعت أذن الدخول، شددت على يد صغيري ودخلت..
رأيته.. كان يعاني للوصول لكوب الماء بجواره، كدت أخطي لأعطيه إياه.. إلا أن يد سبقتني
- أبي..
نظرتُ للمشهد أمامي وأنا أبتسم بوجع، طفلي الذي رفضه أبوه يومًا ها هو الآن من يسقيه، ويمسح آثر الماء المسكوب من على ذقنه.
نظر لي نظرة أدركتها، ولكن ما عاد للندم من فائدة الآن، انقضى العمر وانتهى الأمر.
كان قد أهلكه الحزن والوجع أكثر من المرض، ابتسمتُ له بهدوء لا يعبر عن شيء وأنا أقترب..
جلس كامل بجواره على السرير وأخذ يمسح على شعره ويبتسم له بحنان، كما أفعل أنا معه حتى ينام..
ومن ثم قبَّله على جبينه- هل تحتاج لشيء أبي؟
رأيتُ الدمع يهطل من عينه، كما رأها كامل ومحاها بإصبعه.
- لا تبكي أبي، أنا وأمي... هنا بجوارك.
طفلي الذي لم يؤمن به والده على أنه شخص كامل أو كما بقية الخلق، هو الآن من بقيَّ عليه، وأولاده الذين كان يفتخر بهم وأرادهم سليمَّي الجسد حصل عليهم ولكنهم أول من باعوه.. طفلي الذي رفضه العالم كان يملك أكثر مما يملكه صحيحي الأجساد.. كان يملك قلبًا لم يمسه حقد أو كره.. قلبًا نقيًا تمامًا...